ساحة الوثبة
لمحات ومشاهد تسجيلية عن العراق وانتفاضة تشرين
قيس العذاري
عاد قاسم الى سكنه بساحة الوثبة ايذانا بهدوء الوضع وعودته الى طبيعته ، بعد التوتر الاخير واختلاط الحابل بالنابل بين دخلاء ومتظاهرين كاد ان ينتهي الى تحريف هدف الاعتصامات والتظاهرات التي اشتدت في الخلاني وساحة الوثبة وشارع الرشيد .
ساحة الوثبة الان اكثر هدوءا من الاسابيع الماضية ، ولكن حماس الشباب لم يفتر ما زالوا يعملون على تحقيق مطالبهم وشعاراتهم ، وتحدث بين حين واخر فورة هنا وهناك تؤدي الى مظاهرات حاشدة وصاخبة تتواصل بين ساحة الوثبة وشارع الرشيد والخلاني ، تتجاوزها احيانا الى شارع امانة بغداد ، الذي سرعان ما يغلقه المتظاهرون لتوفير الامان للمتظاهرين ، وحين يغلق شارع الامانة لا يمر منه سوى التكتك . واذا اردت اجتيازه وعبوره لا بد ان تستقل التكتك لتوصلك الى الباب الشرقي او حديقة الامة .
اكثر ما يثير التفاؤل ان الحاجز بين ساحة الوثبة وسوق الوثبة ازيل وعادت الساحة الى انفتاحها القديم على السوق بدون حواجز وعوائق من اي نوع . لاحظت مدى سعادته وفرحه وظننت بانه من الرصافة اكثر منه من الكرخ رغم انه ولد في الكرخ وكذلك والده الذي دائما ما يذكره ويعتبره معلمه الاول .
قلت له ما كنت افكر به ، بانه رصافيا اكثر منه كرخيا فضحك كعادته ، وقال :
اكثر حياتي قضيتها في الرصاقة وعملي في الرصافة ، بحيث لم يبق من الكرخ سوى ذكرى ولادتي واوراقي الثبوتية . ولكنه اضاف بصدق :
ثق لا فرق لدي بين الكرخ والرصافة ، وليس هناك شبر في العراق لا احبه كما احب الرصافة وبغداد لانني عشت فيها ولا اعرف غيرها اكثر منها سواء في العراق او خارجه ، وقال ضاحكا بعد ان استعار احد شعارات الشباب : انا عراقي .
2
احتزنا ساحة الوثبة الى السوق ، ، عاد اكثر الباع على جانبي الشارع المؤدي الى المحال والمقاهي والمطاعم كلما توغلت في الشارع رغم قصره ، وجدنا مجموعة من مختلف الاعمار يقفون بباب مقهى الوثبة ، جلسنا خارج المقهى وسرعان ما اتى لنا صاحب المقهى بالشاي قبل ان نوصيه . ووضعه على طاولة خشبية امامنا مع الترحيب الحار والخاتمة او اللازمة :
امر .. خدمة؟
ظلوا بباب المقهى كأنهم يتباحثون بامر جلل ، يلفتوا انظار رواد المقهى والمارة .
فسألني قاسم هل تعرفهم؟
قلت له : لا .
قال : هؤلاء من امانة بغداد القريبة ، واضاف : "طالعين كشف" وهو يضحك .
كانت الاوساخ والنفايات تملا السوق وتتجاوزه الى ساحة الوثبة . قلت له هل تعرف ما يدور بذهني الان ، انتفض وقال : بلا مشاكل .
كنت اود ان اضربهم بالطاولة الخشبية امامنا ، لميوعتهم وسخفهم ، يمضون مدار اليوم بالاجتماعات والتباحث ، وبعد عدة أيام ياتي احد العاطلين يحمل مكنسة لا يستطيع ان يجرف بها نفايات السوق وبعد اقل من ساعة يتوقف ثم يعود من حيث اتى .
3
قال قاسم لسائق التكتك :
عله كيفك عيني تريد تموتنا!
اجابه سائق التكتك :
ها .. ابو محمد خفت؟
قال له قاسم مؤنبا :
وبعدين ليش قاطعين شارع الامانة؟
بعد ساعة او اقل "مظاهرات بساحة الوثبة" ؟
انتبه ابو محمد . وسأله : من قال لك ، لم اسمع بمظاهرات اليوم .
قبل قليل بلغت ، ستبدأ بساحة الخلاني ، واضاف تريد نرجع؟
قال له لا .. سننزل قرب حديقة الامة .
صار ابو محمد تدلل .
وقبل ان نتوجه الى ساحة التحرير من طرف الشارع بجانب حديقة الامة . سأل سائق التكتك : متى ترجعون؟
قال له قاسم : لا ادري .
فقال اتصل بي قبل نصف ساعة .. سأنتظركم هنا بنفس المكان .
كنت اتوقع ما يفكر به بتلك اللحظة وذهوله من عنفوان الشباب واندفاعهم حتى النهاية ، وفي نفس الوقت يشعر بالخوف عليهم ، فقد استشهد درزينة من الشباب بساحة الخلاني قبل ايام ، وقطعت جميع الشوارع والازقة المؤدية الى ساحة التحرير بما فيها شارع امانة بغداد .
قلت له :
لا احد يمكنه ان يوقفهم!
قال اعرف ، ونحن ندلف الى ساحة التحرير اسفل نصب الحرية ، لندخل بعوالم الساحة التي تزداد سحرا يوما بعد يوم . وتجذب اليها المزيد من المنتفضين . جلبت بعض الامهات تنانير حديدية لتقديم الخبز للمتظاهرين ، نساء من مختلف الاعمار ، شكلن بين ليلة وضحاها مشهدا ليس له مثيل بتأريخ الساحة اوغيرها من الساحات العامة لمساندة الشباب ومطالبهم وحقوقهم . كان خبزهن المجاني يكفي لاشباع الجياع بكل مكان ، طالما هناك من يتبرع بمسلتزماته ومواده ، ويفيض عن الحاجة .
وتداولنا في تلك اللحظة مقولة "الحاجة ام الاختراع" هناك المئات وربما الالاف يبيتون في الساحة وحديقة الامة المجاورة ، وتمتد خيم المعتصمين الى نهاية نفق التحرير المؤدي الى شارع السعدون وتتجاوزه ، ومئات المعتصمين بجميع طوابق جبل "احد" من معتصمي بغداد ومحافظات الوسط والجنوب ، فيبدو جبل "احد" خاصة في الليل كمنارة مضيئة وسط الجو الاحتفالي الذي لا يشبه سوى نفسه في الساحة الثائرة .
4
لا هدوء سواء في الليل او في النهار ، والحركة دائبة متواصلة بجميع الاتجاهات ، وحين يأتي النوم ان اتى ظهرا او عصرا او بعد منتصف الليل ،
اصوات عالية ومنخفضة تعم الساحة كاعصار يضبط نفسه على خطوات صعوده وعنفوان حركته بكل الاتجاهات في وطن اتكأ فيه الفاسدون على عصا من الشرق وعصا من الغرب ،
عصا باسم : الخرافة
وعصا باسم : ما بعد بعد الحداثة .
نخرتهما انتفاضه تشرين ، وطوحت بهما الهتافات للوطن ، تهديهم في الضياع ، ومتاهات الغرباء المرسومة .
تأتي بهم الى الحقيقة الوحيدة في الساحة باعلامها وهتافاتها وشعاراتها الخالدة .
5
دخلنا في انحناءات ومنعرجات وعرة لا احد يمكنه ان يتوقع ما سيحدث اليوم او بعد قليل او غدا
شعارات المنتفضين الثابت الوحيد في كل مكان في بغداد القديمة
كأنها هبطت من ماضيها
لتملا قلوبهم بامل جديد .
................